فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{لا أُقْسِمُ بِيوْمِ الْقِيامةِ (1)}
قرأ جمهور السبعة: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} وقرأ ابن كثير والحسن بخلاف عنه والأعرج {لأقسم بيوم القيامة ولأقسم بالنفس}، فأما القراءة الأولى فاختلف في تأويلها فقال ابن جبير: (لا) استفتاح كلام بمنزلة ألا وأنشدوا على ذلك المتقارب:
فلا وأبيك ابنة العامري ** لا يعلم القوم أني أفر

وقال أبو علي الفارسي: (لا) صلة زائدة كما زيدت في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] ويعترض هذا بأن هذه في ابتداء كلام. ولا تزاد (لا) وما نحوها من الحروف إلا في تضاعيف كلام. فينفصل عن هذا بأن القرآن كله كالسورة الواحدة وهو في معنى الاتصال فجاز فيه هذا، وقال الفراء: (لا) نفي لكلام الكفار وزجر لهم ورد عليهم، ثم استأنف على هذه الأقوال الثلاثة قوله: {أقسم}، ويوم القيامة أقسم الله به تنبيها منه لعظمه وهوله. وقوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} القول في (لا) على نحو ما تقدم، وأما القراءة الثانية فتحتمل أمرين، إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال، التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر، وإما أن يكون الفعل خالصا للاستقبال فكأن الوجه والأكثر أن تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة، لكن قد ذكر سيبويه أن النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر: الكامل:
وقتيل مرة أثأرن فإنه ** فرغ وإن قتيلهم لم يثأر

المراد لأثارن، وأما قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} فقيل (لا) نافية، وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، ونفى أن يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن، وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ {لا أقسم} و{لأقسم}، وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين، واختلف الناس في (النفس اللوامة) ما معناه، فقال الحسن هي (اللوامة) لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه، فهي على هذا ممدوحة، ولذلك أقسم الله تعالى بها، وقال ابن عباس: هي الفاجرة الجشعة (اللوامة) لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر، وقال ابن جبير ما معناه: إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر، وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة.
قال القاضي أبو محمد: وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء، فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت، وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان} تقرير وتوبيخ، و{الإنسان} اسم جنس وهذه أقوال كانت لكفار قريش فعليها هو الرد، وقرأ جمهور الناس: {نجمع عظامه} بالنون ونصب الميم من العظام، وقرأ قتادة {أن لن يجمع عظامه} بالياء ورفع الميم من العظام، ومعنى ذلك في القيامة وبعد البعث من القبور، وقرأ أبو عمرو بإدغام العين ثم قال تعالى: {بلى} وهي إيجاب ما نفي، وبابها أن تأتي بعد النفي والمعنى بل يجمعها {قادرين} بنصب {قادرين} على الحال. وقرأ ابن أبي عبلة {قادرون} بالرفع، وقال القتبي: {نسوي بنانه} معناه نتقنها سوية، والبنان: الأصابع، فكأن الكفار لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام، قيل لهم إنما تجمع ويسوى أكثرها تفرقا أجزاء وهي عظام الأنامل ومفاصلها، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: {نسوي بنانه} معناه نجعلها في حياته هذه بضعة أو عظما واحدا كخف البعير لا تفاريق فيه، فكأن المعنى قادرين لأن في الدنيا على أن نجعلها دون تفرق، فتقل منفعته بيده، فكأن التقدير {بلى} نحن أهل أن نجمعها {قادرين} على إزالة منفعة بيده، ففي هذا توعد ما، والقول الأول أحرى مع رصف الكلام، ولكن على هذا القول جمهور العلماء، وقوله تعالى: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال بعض المتأولين: الضمير في {أمامه} عائد على {الإنسان}، ومعنى الآية أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكب رأسه ومطيع أمله ومسوفا بتوبته، قاله مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي. وقال السدي: المعنى ليظلم على قدر طاقته، وقال الضحاك المعنى يركب رأسه في طلب الدنيا دائما، وقوله تعالى: {ليفجر أمامه} تقديره لكن يفجر، وقال ابن عباس ما يقتضي أن الضمير في {أمامه} عائد على {يوم القيامة}، والمعنى أن الإنسان هو في زمن وجوده أمام يوم القيامة وبين يديه، ويوم القيامة خلفه فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة، وهو لا يعرف قدر الضرر الذي هو فيه، ونظيره قوله تعالى: {ليفجر} قول قيس بن سعد (أردت لكيما يعرف الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود).
و{بل} في أول الآية هي إضراب على معنى الترك لا على معنى إبطال الكلام الأول، وقد تجيء بل لإبطال القول الذي قبلها، وسؤال الكافر {أيان يوم القيامة} هو على معنى التكذيب والهزء كما تقول لمحدث بأمر تكذبه متى يكون هذا؟ و{أيان} لفظة بمعنى متى، وهي مبينة لتضمنها معنى الاستفهام فأشبهت الحروف المتضمنة للمعاني.
وكان حقها أن تبنى على السكون، لكن فتحت النون لالتقاء الساكنين الألف وهي وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وقتادة والجحدري وعاصم والأعمش وأبو جعفر وشيبة {برق البصر} بكسر الراء بمعنى شخص وشق وحار. وقرأ نافع وعاصم بخلاف، وعبد الله بن أبي إسحاق وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم {برق} بفتح الراء، بمعنى لمع وصار له بريق وحار عند الموت، والمعنى متقارب في القراءتين، وقال أبو عبيدة {برق} بالفتح شق، وقال مجاهد هذا عند الموت، وقال الحسن هذا في يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس: {وخسف القمرُ} على أنه فاعل، وقرأ أبو حيوة {خُسِف} بضم الخاء وكسر السين و{القمرُ} مفعول لما يسم فاعله. يقال خسف القمر وخسفه الله، وكذلك الشمس، وقال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين الخسوف والكسوف بمعنى واحد، قال ابن أبي أويس: الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف ذهاب جميعه، وروي عن عروة وسفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت» وقوله تعالى: {وجمع الشمس والقمر} غلب عليه التذكير على التأنيث وقيل ذلك لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، وقيل المراد بين الشمس والقمر، وكذلك قرأ ابن أبي عبلة. واختلف المتأولون في معنى الجمع بينهما فقال عطاء بن يسار: يجمعان فيقذفان في النار، وقيل في البحر، فتصير نار الله العظمى، وقيل يجمع الضواءن فيذهب بهما، وقرأ جمهور الناس {أين المفر} بفتح الميم والفاء على المصدر أي أين الفرار، وقرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السخيتاني وكلثوم بن عياض ومجاهد ويحيى بن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق، {أين المفِر} بفتح الميم وكسر الفاء عل معنى أين موضع الفرار، وقرأ الزهري: {أين المِفر} بكسر الميم وفتح الفاء بمعنى أين الجيد من الفرار، و{كلا} زجر يقال للإنسان يومئذ ثم يعلن أنه {لا وزر} له أي ملجأ، وعبر المفسرون عن الوزر بالحبل، قال مطرف بن الشخير وغيره، وهو كان وزر فرار العرب في بلادهم، فلذلك استعمل، والحقيقة أنه الملجأ كان جبلا أو حصنا أو سلاحا أو رجلا أو غيره، وقوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المستقر} معناه إلى حكم ربك أو نحوه من التقدير و{المستقر} رفع بالابتداء وخبره في المقدر الذي يتعلق به المجرور المتقدم، تقدير الكلام المستقر ثابت أو كائن إلى ربك يومئذ، و{المستقر}: موضع الاستقرار، وقوله تعالى: {بما قدم وآخر} قسمة تستوي في كل عمل، أي يعلم بكل ما فعل ويجده محصلا، قال ابن عباس وابن مسعود المعنى {بما قدم} في حياته {وأخر} من سنة يعمل بها بعده، وقال ابن عباس أيضا: {بما قدم} من المعاصي {وأخر} من الطاعات، وقال زيد بن أسلم: {بما قدم} لنفسه من ماله وبما أخر منه للوارث، وقوله تعالى: {بل الإنسان} إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول، و{بصِيرة} يحتمل أن يكون خبرا عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة، والمعنى فيه وفي عقله وفطرته حجة وطليعة وشاهد مبصر على نفسه، والهاء للتأنيث، ويراد ب (البصِيرة) جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس، و(المعاذير) هنا قال الجمهور: هي الأعذار جمع معذرة، وقال السدي والضحاك: هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر المعذار، وقال الحسن: المعنى {بل الإنسان على نفسه} بلية ومحنة، كأنه ذهب إلى البصِيرة التي هي طريقة الدم وداعية طلب الثأر وفي هذا نظر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال القرطبي:

.باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام والأمور الجسام:

قال المحاسبي في كتاب التوهم والأهوال: يحشر الله الأمم من الإنس والجن عراة أذلاء قد نزع الملك من ملوك الأرض ولزمهم الصغار بعد عتوهم والذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه. ثم أقبلت الوحوش من أماكنها منكسة رؤوسها بعد توحشها من الخلائق وانفرادها ذليلة من هول يوم النشور من غير ريبة ولا خطية أصابتها حتى وقفت من وراء الخلق بالذلة والانكسار لذلك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد تمردها وعتوها خاضعة ذليلة للعرض على الملك الديان، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر فأظلما عليهم ومارت سماء الدنيا من فوقهم فدارت من فوقهم بعظمها فوق رؤوسهم وهي خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعهم وتمزقت وتفطرت لهول يوم القيامة من عظم يوم الطامة ثم ذابت حتى صارت مثل الفضة المذابة كما قال الجبار تبارك وتعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} وقال: {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن أي كالصوف المنفوش} وهو أضعف الصوف وهبطت الملائكة من حافاتها إلا الأرض بالتقديس لربها فتوهم انحدارهم من السماء لعظم أجسامهم وكثرة أخطارهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم من خوف ربهم فتوهم فزعك حينئذ وفزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم فأخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسي رؤوسهم العظيم هول يومهم قد تسربلوا أجنحتهم ونكسوا رؤوسهم بالذلة والخضوع لربهم، وكذلك ملائكة كل سماء إلى السماء السابعة قد أضعف أهل كل سماء على أهل السماء الذين قبلهم في العدة وعظم الأجسام والأصوات حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوسين أو قوس فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن فمن بين مستظل بظل العرش وبين مضح بحر الشمس قد صهرته واشتد فيها كربه وأقلقته وقد ازدحمت الأمم وتضايقت ودفع بعضهم بعضا، واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش قد اجتمع عليهم في مقامهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم وتزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض، ثم على أقدامهم، ثم على قدر مرابتهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء، فمنهم من يبلغ العرق منكبيه وحقويه، ومنهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد ألجمه العرق فكاد أن يغيب فيه.
قلت: ذكر المحاسبي وغيره أن انفطار السماء انشقاقها بعد جمع الناس في الموقف وقد قدمنا أن ذلك يكون قبل ذلك وهو ظاهر القرآن كما ذكرنا والله اعلم وقد جاء ذلك مرفوعا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم.
وما ذكره المحاسبي مروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد جهنم وإنسهم، فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء عن أهلها فينتشرون على وجه الأرض فلأهل السماء أكثر من أهل جميع الأرض جهنم وإنسهم بالضعف.
الحديث بطول ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. قال: أخبرنا عوف عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي قال، أخبرنا شهر بن حوشب. قال: حدثني ابن عباس فذكره. قال ابن المبارك وأخبرني جويبر عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمر الرب فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر السماء التي تليها فينزلون فيكونون صفا خلف ذلك الصف ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فينزل الملك الأعلى في بهائه وجلاله وملكه وبجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها وشهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان العذر وذلك قوله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} وقال: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها} يعني على حافاتها يعني بأرجائها ما تشفق منها، فبيناهم كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب.
قلت: ولا يصح إسنادهما، فإن شهرا وجبيرا قد تكلم فيها وضعفوهما.
قال البخاري في التاريخ جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال لي علي، قال يحيى: كنت أعرف جويبرا بحديثين، ثم أخرج هذه الأحاديث بعد فضعفه، وأما شهر فقال مسلم في صدر كتابه سئل ابن عوف عن حديث شهر وهو قائم على أسكفة الباب، فقال: إن شهرا تركوه. قال مسلم: يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه، وقال عن شعبة وقد لقيت شهرا فلم أعتد به.
وذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة نحوا مما ذكر المحاسبي عن ابن عباس رضي الله عنه والضحاك فقال إن الخلائق إذا اجتمعوا في صعيد واحد الأولين والآخرين أمر الجليل جل وجلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنسانا وشخصا من المبعوثين إنسا وجنا ووحشا وطيرا وحولوهم إلى الأرض الثانية، وهي أرض بيضاء من فضة نورية، وصارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة، فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات، ثم إن الله سبحانه وتعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدقون بهم واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، فإذا هم أكثر منهم ثلاثين ضعفا، ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين صفا، ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة والخلق تتداخل وتندمج حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام، وتخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان وإلى الصدر وإلى الحقوين وإلى الركبتين، ومنهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام، ومنهم من تصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء، وكيف لا يكون القلق والعرق والأرق وقد قربت الشمس من رؤوسهم حتى لو مد أحدهم يده لنالها، ويضاعف حرها سبعين مرة.
وقال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيتئها يوم القيامة لأحرقت الأرض وذابت الصخر وجفت الأنهار، فبينما الخلائق يموجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} وهم على أنواع في المحشر على ما تقدم في حديث معاذ، والملوك كالذر كما قد ورد في الخبر في وصف المتكبرين وليس هم كهيئة الذر غير أن الأقدام عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانخفاضهم، وقوما يشربون ماء باردا عذبا صافيا، لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم.
وعن بعض السلف أنه نام فرأى القيامة قد قامت، وكأنه في الموقف عطشان وصبيان صغار يسقون الناس قال: فناديتهم ناولوني شربة، فقال لي واحد منهم ألك فينا ولد؟ فقلت: لا. فقال: فلا إذا ولهذا فضل التزويج. ولهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في الإحياء، وقوم قدموا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة لا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتاب الإحساء وهو بعض أسرار القرآن فتوجل له القلوب وتخشع الأبصار لعظيم نقره، وتشتاف الرؤوس من المؤمنين، والكافرين يظنون أن ذلك عذاب يزداد بهم في هول يوم القيامة، فإذا بالعرش تحمله ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة، وأفواج الملائكة وأنواع الغمام بأصوات التسبيح، لهم هرج عظيم لا تطيقه العقول حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة، فتطرق الرؤوس وتخنس وتشفق البرايا وترعب الأنبياء وتخاف العلماء وتفزع الأولياء والشهداء من عذاب الله سبحانه الذي لا يطيق شيء إذ غشاهم نور حتى غلب عليه نور الشمس التي كانوا في حرها فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل سبحانه لا يكلمهم كلمة واحدة، فحينئذ يذهب الناس إلى آدم فيقولون: يا أبا البشر الأمر علينا شديد، وأما الكافر فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار من شدة ما يرى من الهول. يقولون: أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته ونفخ فيك من روحه اشفع لنا في فصل القضاء، وذكر أمر الشفاعة من نبي إلى نبي وأن ما بين إتيانهم من نبي إلى نبي ألف عام حتى تنتهي الشفاعة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على ما يأتي بيانه من أمر الشفاعة في أحاديث إن شاء الله تعالى، ونحو من هذا ذكره الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له قال: فإذا كان يومئذ جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وكورت الشمس وانكدرت النجوم ومارت السماء فوق الخلائق مورا، وتفطرت من عظيم هول ذلك اليوم، وتشققت بالغمام المنزل من عليهن فوقهن، ثم صارت وردة كالدهان وكشطن سماء سماء، ونزلت الملائكة تنزيلا، وقام الخلائق وطال قيامهم أقل ما قيل في قيامهم مقدار أربعين عاما إلى ثلاثمائة عام، وأياما كان فاليوم يسعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من صاحب..». إبل الحديث وفيه وردت عليها أولاها. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وسيأتي بكماله وهم في قيامهم ذلك في الظلمة دون الجسر كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان «عراة غرلا. أعطش ما كانوا وأجوع ما كانوا عليه قط عراة فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله عز وجل، ولا يطعم إلا من أطعم لله، ولا يكسى يومئذ إلا من كسا لله، ولا يكفى إلا من اتكل على الله». ومصداق هذا من كتاب الله عز وجل قوله الحق: {يوفون بالنذر} إلى قوله تعالى: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي من إزالة الجوع والعطش والعرى إلى غير ذلك من أهوال القيامة وأفزاعها على ما يأتي بيانه في هذا الباب الذي يليه.
أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين. قال: فيعرفون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل قال سلمان: حتى يقول الرجل غرغر، فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ائتوا أباكم آدم فيشفع لكم. الحديث بطوله، وسيأتي مرفوعا من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن المبارك قال: أنبأنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: «تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوسين فتعطى حر عشر سنين وليس على أحد يومئذ طحرية ولا يرى فيها عورة مؤمن ولا مؤمنة لا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة وأما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم طبخا فإنما تقول أجوافهم: غق غق» قال نعيم: الطحرية: الخرقة. وأخرجه هناد بن السري، حدثنا قبيضة عن سفيان عن سليمان التيمي فذكره سواء إلا أنه قال: «ولا يجد حرها» بدل «ولا يضر» وقال: «وأما الكافر أو الآخرون فتطبخهم طبخا حتى يسمع لأجوافهم غق غق».
مسلم عن سليم بن عامر، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما» قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه، وأخرجه الترمذي وزاد قوله «تكحل به العين فتصهرهم الشمس».
وذكر ابن المبارك، أخبرنا مالك بن مغول، عن عبيد الله بن العيزار قال: إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن والسعيد الذي يجد لقدميه موضعا يضعهما عليه، وإن الشمس تدنى من رؤوسهم حتى لا يكون بينها وبين رؤوسهم إما قال ميلا أو ميلين ثم يزاد في حرها بضعة وستون ضعفا، وعند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى ألا إن فلان بن فلان قد ثقلت موازينه وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. ألا فلان ابن فلان قد خفت موازينه وشقى شقاء لا يسعد بعده أبدا.
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم» يشك ثور أيهما قال: أخرجه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم «يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه» أخرجه البخاري والترمذي وقال: حديث صحيح مرفوعا وموقوفا.
وروى هناد بن السري قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن ضرار بن مرة، عن عبد الله بن المكتب، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال له رجل إن أهل المدينة ليوفون الكيل يا أبا عبد الرحمن. قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل. وقد قال الله تعالى: {ويل للمطففين} حتى بلغ {يوم يقوم الناس لرب العالمين}
قال: إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة وعظمه.
وخرج الوائلي من حديث ابن وهب قال: حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، عن ابن هانئ، عن أبي عبد الرحمن الحيلي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يوم يقوم الناس لرب العالمين} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا جمعكم الله عز وجل كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم»؟ قال الوائلي غريب جيد الإسناد.
وقد خرج مسلم لابن وهب عن أبي هانئ نفسه عن الحيلي عن عبد الله أحاديث ابن المبارك قال: أخبرنا الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعيد يقول: إن للناس يوم القيامة جولة وهو قوله عز وجل: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} وقوله: {لو ترى إذ فزعوا فلا فوت} وفي حديث جويبر عن الضحاك: فينزل الملك ومجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها وشهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان العذر وقالرسول الله صلى الله عليه وسلم «خوفني جبريل من يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ربي ذنبي ما تقدم وما تأخر؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم أحدهما ينسيك المغفرة». ذكره أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله.
فصل:
قلت: ظاهر ما رواه ابن المبارك عن سلمان أن الشمس لا يضر حرها مؤمن ولا مؤمنة العموم في المؤمنين وليس كذلك لحديث المقداد المذكور بعده، وإنما المراد لا يضر حرها مؤمنا كامل الإيمان أو من استظل بظل عرش الرحمن كما في الحديث الصحيح «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» الحديث رواه الأئمة مالك وغيره وسيأتي في الباب بعد هذا.
وكذلك ما جاء أن المرء في ظل صدقته وكذلك الأعمال الصالحة أصحابها في ظلها إن شاء الله، وكل ذلك من ظل العرش والله أعلم.
وأما غير هؤلاء فمتفاوتون في العرق على ما دل عليه حديث مسلم، قال ابن العربي: وكل واحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه وإلى جانبيه مثلا يمين من يبلغ كعيبه، ومن الجهة الشمال من يبلغ ركبتيه، ومن أمامه من يكون عرقه إلى نصفه، ومن خلفه من يبلغ العرق صدره، وهذا خلاف المعتاد في الدنيا فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة أخذهم الماء أخذا واحدا ولا يتفاوتون، كما ذكرنا مع استواء الأرض ومجاورة المحل، وهذا من القدرة التي تخرق العادات في زمن الآيات.
وقال الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له: ولا يبعدون عليك هذا يرحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد وموقف سواء يشرب أحدهم أو بعض من الحوض ولا يشرب الغير، ويكون النور يسعى بين يدي البعض في الظلمات مع قرب المكان وازدحام الناس، ويكون أحدهم يغرق في عرقه حتى يلجمه أو يبلغ منه عرقه ما شاء الله جزاء لسعيه في الدنيا والآخرة في ظل العرش على قرب المكان والمجاورة، كذلك كانوا في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس والكافر في ظلام كفره، والمؤمن في وقاية الله وكفايته والكافر والعاصي في خذلان الله لهما وعدم العصمة، والمؤمن السني يكرع في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى ببرد اليقين ويمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء والمبتدع عطشان إلى ما روى المؤمن به حيران لا يشعر سالك في مسالك ضلالات البدع وهو لا يدري، كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير ولا ينفعه دواء إنما هي بواطن وظواهر بطنت فتشعر لذلك وتفطن واستعن بالله يعنك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال أبو حامد: واعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج وجهاد وصيام وقيام وتردد في قضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة ويطول فيه الكرب، ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرر لعلم أن تعب العارف في تحمل مصاعب الدنيا أهون أمرا وأقصر زمانا من عرق الكرب والانتظار في القيامة، فإنه يوم عظيم شديد طويل مدته.
وذكر أبو نعيم عن أبي حازم أنه قال: لو نادى مناد من السماء أمن أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من هول ذلك الموقف ومعاينة ذلك اليوم.